روائع مختارة | قطوف إيمانية | نور من السنة | أحاديث الفتن وأشراط الساعة.. (1- 2) (الدجال)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > نور من السنة > أحاديث الفتن وأشراط الساعة.. (1- 2) (الدجال)


  أحاديث الفتن وأشراط الساعة.. (1- 2) (الدجال)
     عدد مرات المشاهدة: 2533        عدد مرات الإرسال: 0

اهتم الشارع بالعقل اهتماماً بالغاً فجعله مناط التكليف، وأحد الضرورات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها ورعايتها، وقامت عليها مصالح الدين والدنيا، وخاطب الله أصحاب العقول والألباب وأثنى الله عليهم في غير ما آية من كتابه.

ومع ذلك فإن للعقل حدوداً لا يتعداها، ومواطنَ ينتهي إليها، ولا سبيل له إلى إدراك كل مطلوب، ولهذا أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، فلولا الرسالة لما اهتدى العقل إلى معرفة تفاصيل أركان الإيمان، وشرائع الإسلام، وما يتعلق بالساعة والمعاد والبعث والحساب والجزاء وغير ذلك من أمور الغيب.

ومع أن عقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم هو أكمل العقول وأزكاها على الإطلاق، إلا أن الله سبحانه أخبر أنه قبل الرسالة ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، يقول جل وعلا:  {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى 52).

وبين أنه لم يحصل على الهداية إلا بالوحي والشرع الذي جاءه من عند الله، قال سبحانه:  {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب} (سـ بأ 50) .

فالعقل إذاً لا يصح إن يُجعَل حاكماً بإطلاق، بل الحاكم هو الشرع والعقل تابع له، وما مثله في ذلك إلا كمثل ضوء الشمس مع العين، فالشرع هو الشعاع الذي يضيء للعين لكي ترى وتبصر، ويستحيل بدونه أن يدرك مالا يقدر عليه من المعارف.

وإذا كان الأمر كذلك فإن من أخطر مظاهر الانحراف وعدم الاستسلام الكامل للشريعة، تقديم العقل، وتحكيمه في أمور النقل، وردُّ بعض الأحاديث الصحيحة أو تأويلها بحجة مخالفتها للعقول، من غير تمييز بين ما يستطيع العقل أن يدركه، وما لا يستطيع.

وقَدَمُ الإسلام لا تثبت إلا على ظهر التسليم والاستسلام كما قال الإمام الزهري رحمه الله في كلام جامع يبين القاعدة في هذا الأمر:  " من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ".

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة - بظهور المسيح الدجال، ومكان خروجه وصفته، وأتباعه، وفتنته، وبعض الخوارق التي يجريها الله على يديه، وسبل الوقاية من هذه الفتنة، ثم هلاكه ومقتله على يد نبي الله عيسى عليه السلام، وكل هذا مروي من طرق متكاثرة في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة المعتمدة.

بعض الأحاديث الواردة في الدجال:

فمما جاء في صفته ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال:  (بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم سبط الشعر بين رجلين ينطف رأسه ماء، فقلت من هذا؟ قالوا:  ابن مريم، فذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر جسيم جعد الرأس أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، قلت:  من هذا؟ قالوا:  هذا الدجال أقرب الناس به شبهاً ابن قطن) رجل من خزاعة، وفي حديث أنس رضي الله عنه:   (وإن بين عينيه مكتوب كافر) ، وفي رواية:   (ثم تهجاها (ك ف ر) يقرؤه كل مسلم) .

ومما جاء في مكان خروجه قوله- صلى الله عليه وسلم - في رواية للترمذي من حديث أبي بكر:  (الدجال يخرج من أرض بالمشرق، يقال:  لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة) .

ومما جاء في أتباعه قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن أنس:   (يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة) .

ومما جاء في فتنته قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه:  (الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار) ، و لمسلم أيضاً عن حذيفة:  (لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان، أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد، فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليغمض، ثم ليطأطئ رأسه، فيشرب منه، فإنه ماء بارد) .

ومن ذلك الحديث الجامع الذي رواه مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال:  

(ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال:  ما شأنكم؟ قلنا:  يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال:  غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا، قلنا:  يا رسول الله، وما لبثه في الأرض، قال أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا:  يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم، قال:  لا، اقدروا له قدره، قلنا:  يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض، قال:  كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا، وأسبغه ضروعا، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها:  أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. . . . . إلخ)

شبهات حول أحاديث الدجال:

ومع ذلك لم تسلم هذه الأحاديث - الثابتة في الصحيحين وغيرهما - من الاعتراض والاستنكار والتأويل مصداقاً لما أخبر به - صلى الله عليه وسلم – من أنه سيأتي من ينكر ظهور الدجال وغيره من الأمور الثابتة بصريح الكتاب وصحيح السنة وذلك في قوله:  (ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم، وبالدجال، وبالشفاعة، وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا ) رواه أحمد بسند صحيح.

فقد ذهب الشيخ محمد عبده – كما نقل عنه صاحب تفسير المنار (3/ 317) - إلى أن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح، التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها، والأخذ بأسرارها وحكمها.

وتبعه أبو عبيه في تعليقه على كتاب النهاية في الفتن والملاحم للإمام ابن كثير حيث ذهب إلى أن الدجال رمز للشر، واستعلائه وصولة جبروته، واستشراء خطره، واستفحال ضرره في بعض الأزمنة، وتطاير أذاه في كثير من الأمكنة، بما يتيسر له من وسائل التمكن والانتشار، والفتنة في بعض الوقت، إلى أن تنطفئ جذوته وتموت جمرته بسلطان الحق.

وأما أبو ريه فقد عرض لأحاديث الدجال - في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " صـ 213- وطعن فيها معتبراً ظهور الدجال في آخر الزمان خرافة.

وبعضهم أثبت وجوده ولكنه أنكر الخوارق التي تكون معه، وأنها لا حقيقة لها بل هي خيالات وتمويهات، لأنها - بزعمه - تضاهي أكبر الآيات التي أيد الله بها أولي العزم من الرسل بل تفوقها، ولأن الله عز وجل إنما آتاهم هذه الآيات لهداية خلقه، وإثبات صدق أنبيائه، فكيف يؤتي الدجال أكبر الخوارق لفتنة السواد الأعظم من عباده.

وقد ثبت بنصوص القرآن القطعية أنه لا تبديل لسنته تعالى ولا تحويل، وهذه النصوص المضطربة المتعارضة لا تصلح لتخصيص هذه النصوص القطعية ولا لمعارضتها ".

ثم استشهد على تعارض أحاديث الدجال بأنه ورد في بعض الروايات أن معه جبال الخبز وأنهار الماء والعسل، وأن معه جنة وناراً. . . . . إلى غير ذلك، وقال إن هذا يتعارض مع الحديث الذي في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال:  ما سأل أحدٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال أكثر مما سألته، وإنه قال لي:  ما يضرك منه؟ قلت:  إنهم يزعمون أن معه أنهار الماء وجبال الخبز، قال:  هو أهون على الله من ذلك " (تفسير المنار 9/ 490) .

وإذا كانت فتنة الدجال بهذه الخطورة، فلماذا لم يذكر في القرآن، مع عظم فتنته وتحذير جميع الأنبياء منه، والأمر بالاستعاذة منه في كل صلاة.

من جهة الرواية:

ونحن لا ننكر أنه قد وضعت أحاديث مكذوبة في الدجال وصفته وزمان ومكان خروجه، ولكنه مع هذا قد صحت فيه أحاديث كثيرة رواها البخاري و مسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، حتى نص كثير من العلماء على تواتر هذه الأحاديث، والذين نصوا على تواتر أحاديث نزول عيسى عليه السلام، قالوا بتواتر أحاديث الدجال لأن كثيراً منها مذكورٌ في أحاديث نزول عيسى عليه السلام، وللشوكاني رحمه الله رسالة سماها: 

"التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح " ذكر منها مائة حديث، يحصل التواتر بما دونها فكيف بمجموعها، وقال بعضهم:  " أخبار الدجال تحتمل مجلدات "، وقد أفردها غير واحد من الأئمة بالتأليف، وذكر جملة وافرة منها السيوطي رحمه الله في " الدر المنثور " عند قوله تعالى:  {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} الآية (غافر 56) .

وممن نص على التواتر أيضاً الكتاني في " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " (1/ 229) فقال:  " والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، وكذا الواردة في الدجال، وفي نزول سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام.

ونقل الأبي في شرحه على مسلم قول ابن رشد:  " الأشراط عشرة المتواتر منها خمسة:  الدجال، ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها ".

وقال المعلمي رحمه الله (الأنوار الكاشفة 233):  " فأما ذكره الدجال فمتواتر قطعاً، ومن اطلع على ما في صحيح البخاري وحده علم ذلك ".

وحتى لو لم تصل إلى درجة التواتر، فيكفينا تلقي الأمة لأحاديث الصحيحين بالقبول مما يفيد القطع بثبوتها وصحتها.

من جهة الدراية:

وإذا كانت أحاديث الدجال لا مطعن فيها من جهة الرواية لورودها من طرق متعددة تنفي عنها احتمال الضعف، فهي كذلك لا مطعن فيها من جهة المعنى والدراية، فهذه الأحاديث صريحة في أن الدجال رجل بعينه، وليس هناك ما يدل على أنه رمز للخرافات والدجل والباطل، والنبي - صلى الله عليه وسلم – بين لنا صفات الدجال أوضح بيان حتى يعرفه الناس، ويحذروا من شره، وذلك في أحاديث كثيرة صحيحة.

ومن هذه الصفات أنه:  رجل، شابٌّ، أحمر، قصير، أفحج، جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وهذه العين ليست بناتئة ولا جحراء، كأنها عنبة طافية، وعينه اليسرى عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه (ك ف ر) بالحروف المقطعة أو (كافر) بدون تقطيع، يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب، فهل يمكن أن تكون كل هذه الأوصاف رموزاً للشر والدجل والباطل؟ ! ! .

كما أن هذه الروايات ليس بينها أي اختلاف ولا تعارض، وإن وجد فإنه يمكن الجمع بينها، كما في الروايات التي جاءت في مكان خروجه، فبعضها جاء فيه أنه يخرج من خراسان، وبعضها من المشرق، وبعضها من يهودية أصبهان، لأن أول ما يخرج الدجال من أصبهان، من جهة خراسان، وكلها في جهة المشرق.

وكما في بعض الأحاديث التي يصرح النبي - صلى الله عليه وسلم – باحتمال ظهوره في عصره، وبعضها الآخر التي جاء التصريح فيها بأنه يخرج في آخر الزمان بعد فتح المسلمين لبلاد الروم، لاحتمال أن يكون أوحي إليه بشيء عن خبره وشأنه من غير تعيين لزمانه، ففهم النبي - صلى الله عليه وسلم – جواز أن يكون في عصره، ثم بعد ذلك أعلمه الله أن ذلك سيكون في آخر الزمان قبيل الساعة.

ومثلها الروايات الواردة في ذكر خوارقه كثير منها صحيح ثابت، لا يجوز ردها أو تأويلها بدعوى وجود التعارض والاضطراب فيها، وأما حديث المغيرة الذي استشهد به الشيخ رشيد رضا على أنه معارض للأحاديث الأخرى التي فيها ذكر بعض خوارق الدجال، فيجاب عنه بأن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم – (هو أهون على الله من ذلك).

أي أنه أهون من أن يجعل ما يجريه على يديه من الخوارق مضلاً للمؤمنين، ومشككاً لقلوب الصادقين، ولكن ليزداد الذين آمنوا إيماناً، وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين، وليس المراد من قوله:  (هو أهون على الله من ذلك) أنه ليس معه شيء من ذلك، وشتان بين الأمرين.

وحتى لو سلمنا جدلاً أن الحديث على ظاهره فيكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم – له ذلك قبل أن ينزل عليه بيان ما مع الدجال من الخوارق، بدليل قول المغيرة للنبي صلى الله عليه وسلم:  " يقولون:  إن معه. . . . . . " ولم يقل للنبي - صلى الله عليه وسلم -:  إنك قلت فيه كذا وكذا، ثم جاء الوحي بعد ذلك ببيان ما يكون مع الدجال من الخوارق والآيات، فلا منافاة بين حديث المغيرة وأحاديث الدجال.

ولا يقال إن ما يعطاه الدجال من الخوارق فيه مخالفة لسنن الله الكونية، لأن زمن الدجال تنخرق فيه العادات، وتحدث أمور عظيمة مؤذنة بخراب العالم، وزوال الدنيا، وقرب الساعة، كتتابع حبات العقد إذا انفرط نظامه.

وإذا كان خروجه في زمن فتنة أرادها الله، فلا يقال:  إن الله ألطف وأرحم بعباده أن يفتنهم ويضلهم بهذه الخوارق التي لا تحتملها عقولهم وقلوبهم، لأنه سبحانه اقتضت حكمته أن يبتلي العباد به ليتميز المؤمن الصادق من الكافر والمنافق.

كما أنه أنذر عباده وحذرهم منه، وبين لهم أسباب دفع فتنته والوقاية منها، وجعل فيه آية ظاهرة تدل على كذبه وكفره، يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب، ووصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأبلغ وصف، وقال فيه:  (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت).

فذكر علامتين ظاهرتين يعرفهما جميع الناس، وأرشد إلى ما يقي ويعصم بإذن الله من فتنته، من التسلح بسلاح الإيمان، والاستعاذة بالله، وحفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وغير ذلك، مما يجعل الفتنة به خاصة بمن فرّط في معرفة شأنه، و قصّر في العمل بالأسباب الشرعية التي تدفع شره، وقد أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - أن معظم أتباع الدجال هم من الكفار والمنافقين ورعاع الناس.

بل ربما كان ظهوره سبباً في زيادة إيمان العارفين به، لما يرون من تحقق خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه، ولا أدل على ذلك من موقف ذلك الشاب المؤمن الذي يضربه الدجال بالسيف، فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه فيقبل، فيقول له:  " والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم ".

إذا عُلِم ذلك تبين أن الروايات ليس فيها اضطراب لا من حيث مكان خروجه، ولا من حيث زمان ظهوره، ولم يكن هناك ما يدعو لإنكاره لا سيما مع ما جاء من صفاته التي نبَّهَتْ عليها الأحاديث، والتي تدل دلالة صريحة أنه شخص حقيقة، وكذلك ما جاء في بعض الخوارق التي يجريها الله على يديه، والأمر بالتعوذ من فتنته، والإخبار عن هلاكه، كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أنه شخص بعينه .

قال القاضي عياض رحمه الله شرح مسلم النووي (18/ 58- 59):  " هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره فى قصة الدجال، حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده.

وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا، والخصب معه، وجنته وناره، ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يُعجِزُه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويُبطِل أمره، ويقتله عيسى - صلى الله عليه وسلم - ، ويثبت الله الذين آمنوا.

هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار، خلافاً لمن أنكره وأبطل أمره، من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة. . . . . وغيرهم في أنه صحيح الوجود، ولكن الذي يدعي مخارف وخيالات لا حقائق لها.

وزعموا أنه لو كان حقاً لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا غلط من جميعهم، لأنه لم يدع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية، وهو في نفس دعواه مكذِّبٌ لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه.

ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس، لسد الحاجة والفاقة، رغبة في سد الرمق، أو تقية وخوفاً من أذاه، لأن فتنته عظيمة جداً، تدهش العقول، وتحير الألباب، مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله، ودلائل الحدوث فيه والنقص، فيصدقه من صدقه في هذه الحالة.

ولهذا حذرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنته، ونبهوا على نقصه، ودلائل إبطاله، وأما أهل التوفيق فلا يغترون به، ولا يُخْدَعون لما معه، لما ذكرناه من الدلائل المكذبة له، مع ما سبق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه:  " ما ازددت فيك إلا بصيرة " أهـ .

وقد ذكر الدجال في القرآن ضمن الآيات التي في قوله جل وعلا:  {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} (الأنعام 158) ، وتكفل النبي - صلى الله عليه وسلم- ببيان هذا الإجمال في سنته، فقال في الحديث الذي رواه مسلم و الترمذي عن أبي هريرة: 

(ثلاثٌ إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً:  طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) .

ولأن كثيراً من أحاديث الدجال وهلاكه، مرتبطة بالأحاديث التي ذكرت نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فعلى يديه يكون مقتل الدجال، فسنبين - بمشيئة الله - في الجزء الثاني من هذا الموضوع، أن المسألتين معاً من قضايا الاعتقاد التي يجب الإيمان بها، وعقد القلب عليها، ومن أجل ذلك ذكرها أهل العلم الذين كتبوا في عقيدة أهل السنة والجماعة.
 

المصدر: موقع إسلام ويب